حياة الرئيس العراقي السابق صدام حسين ( 1 )
صفحة 1 من اصل 1
حياة الرئيس العراقي السابق صدام حسين ( 1 )
القوات العراقية حولت المباني الحكومية في الكويت مراكز استجواب وتعذيب
في فبراير من عام 1963، أطيح بعبدالكريم قاسم بانقلاب رتبته وكالة المخابرات المركزية الأميركية، تزعم الانقلاب، الذي اعتبر حتى بالمقاييس العراقية رهيبا وشنيعا، الجنرال أحمد حسن البكر، وهو معلم آخر لصدام، والذي قدمه له خاله خير الله لدى انتقاله الى بغداد, وكان البكر، وهو أيضا تكريتي قد تبوأ مركزا مرموقا في البعث أثناء وجود صدام بالمنفى في القاهرة, واتصف البكر مثل خير الله بكراهيته ومقته للشيوعيين الأمر الذي وضعه بمرتبة مميزة بنظر الأميركيين, وانضم البكر الى البعث أثناء وجوده في السجن لتآمره ضد قاسم، ولدى اطلاق سراح المعتقلين السياسيين من بينهم البكر بدأ الأخير مع غيره من البعثيين بالتخطيط للانقلاب لخلع قاسم.
اضطر الانقلابيون على قاسم الى تقديم موعد التنفيذ بالنظر لاعتقال البعض منهم, ولدى اطلاق المحاولة رفضت كثير من وحدات الجيش دعم البعثيين, وبمساعدة أربع مقاتلات من نوع «هوكر هنتر» هاجم البكر قاسم، في مقره في وزارة الدفاع, استمر القتال طيلة يومين، ونجم عنه سقوط مئات القتلى والجرحى في وسط بغداد، قبل ان يضطر قاسم الى الاستسلام, ورفض قادة الانقلاب السماح له بالاحتفاظ بمسدسه ولا السماح بمحاكمته بصورة علنية، وبعد محاكمة قصيرة أعدم قاسم رميا بالرصاص, واستغرقت عملية استسلامه دون شروط واعدامه ساعة واحدة فقط, ولطمأنة العراقيين المتشككين بأن الرئيس قد انتهى، تم عرض جثة قاسم التي يمزقها الرصاص على التلفزيون العراقي، وتكرر عرض هذا الفيلم المخيف ليلة بعد أخرى, وكان ينتهي بمشهد لا بد أنه علق بأذهان كل من رآه، جندي يمسك بشعر رأس قاسم، ثم يقترب منه ويبصق على وجهه.
لكن المسألة لم تنته عند هذا الحد, دفنت جثة قاسم في حفرة ضحلة دون ان يكتب على القبر أي شيء، لكن الكلاب أخرجتها ونهشتها، وعندما تنبه المزارعون المفزوعون وضعوا الجثة في نعش ودفنوه, لكن البوليس السري نبش القبر من جديد وألقي به في مياه نهر دجلة, أما واشنطن فكانت مرتاحة لتغيير النظام، وعلق جيمس كريتشفيلد مدير «سي,آي,ايه» في الشرق الاوسط والمتخصص في التسلل الشيوعي قائلا: «اننا نعتبر ما حدث خطرا عظيما».
عودة صدام
خلال هذه الأحداث الدراماتيكية، كان صدام لايزال موجودا في القاهرة, لكنه سرعان ما عاد وبصحبته عبدالكريم الشيخلي وبعض البعثيين المنفيين الى بغداد بعد تنصيب النظام الجديد, استقبلوا في مطار بغداد من قبل بعثيين وأفراد العائلة وبعض الأصدقاء, بعد وصوله أعاد صدام تقديم نفسه الى البكر الذي كوفئ على دوره باسقاط قاسم بمنصب رئيس الوزراء من قبل الرئيس الجديد عبدالسلام عارف, عين البكر العديد من أبناء بلدته تكريت في مواقع بارزة، لكن صدام وجد نفسه في بداية الأمر على الهامش وبعيدا عن السياسة الحقيقية، ولم تقبل قيادة الحزب في بداية الأمر العضوية التي حصل عليها صدام في المنفى, فأسندت اليه وظيفة متواضعة في مكتب المزارعين المركزيين وكانت مهمته النظر بوسائل تحسين انتاج المزارعين وقدراتهم.
واذا كان صدام قد أصيب بالاحباط ازاء طموحاته السياسية، فان الاشتباكات الدامية بين البعثيين والشيوعيين بعد اسقاط قاسم وفرت له متنفسا ومخرجا للتعبير عن خيبة آماله, ومعارك الشوارع التي جرت في بغداد خلال الانقلاب تسببت في سقوط ما بين 1500 الى 5000 ضحية, وطيلة أسابيع بعد الانقلاب، جرت عمليات تفتيش ومطاردات من منزل الى منزل بحثا عن الشيوعيين واليساريين، وكانت هذه الملاحقات تتم على يد الحرس القومي الجناح شبه العسكري للبعث, كان أفراده يضعون رباطا أخضر على أذرعهم ويتسلحون بمدافع رشاشة وقوائم بأسماء أنصار الشيوعيين والمتعاطفين معهم، وبعض هذه الأسماء قدمتها لهم «سي آي ايه», كانت الأسابيع الأولى من عهد حكومة البعث الجديدة عبارة عن حفلة من العنف.
ورغم التطمينات التي قدمها البعثيون لوكالة المخابرات المركزية الأميركية بتقديم المعتقلين لمحاكمات عادلة، فان الكثير من هؤلاء الذين احتجزهم الحرس القومي قد عذبوا واعدموا , وتحولت نواد رياضية ومسارح وجزء كبير من شارع الكفاح ومنازل خاصة على يد الحرس القومي كسجون ومراكز للاستجواب, وقد تصرفت وحدات الحرس الجمهوري التابعة لصدام بالطريقة نفسها أثناء غزو العراق للكويت في اغسطس من عام 1990، حيث تم الاستيلاء على المباني الحكومية والقصور وحولوها الى مراكز للاستجواب والتعذيب, وتزعم السجلات العراقية الرسمية بانه تم اعدام 149 شيوعيا، رغم ان المتعارف عليه بان مئات وربما الالاف من الشيوعيين قد اعدموا على يد البعثيين, وكما يحدث غالبا في مثل هذه الظروف والأوضاع، فان الكثيرين ممن يقتلون اما ان يكونوا بريئين او يقعون ضحايا لأحقاد وانتقام شخصي لا علاقة لها بالسياسة.
ويقول الدكتور علي كريم سعيد وهو ديبلوماسي عراقي سابق وكان عضوا بارزا في البعث خلال هذه الفترة ان الكثير من الأبرياء قتلوا أثناء حملة التطهير الحكومية ضد الشيوعيين، وأضاف: «ما زلت أذكر عندما جاء أخي، وكان يعمل نائبا لقائد الاستخبارات العسكرية، وأحد المستجوبين الرئيسيين الى منزلي وقال لي بصوت مشحون بعد ان وضع سلاحه الرشاش جانبا: انني لا استطيع الاستمرار، لانهم يعتقلون ويرسلون اناسا بسطاء الى ساحة الاعدام, هذا غير معقول ولا يمكن احتماله».
غرف التعذيب
كانت أفظع غرف التعذيب تقع في قصر النهاية، وقد اطلق عليه هذا الاسم لأن العائلة المالكة قضي عليها في هذا الموقع عام 1958. وأحد الذين كانوا يمارسون اقسى وأبشع صنوف التعذيب يدعى نديم كزار، الذي أصبح فيما بعد مدير الأمن القومي لدى صدام, كان ساديا بكل ما تعنيه الكلمة، وقد انضم الى حزب البعث عندما كان طالبا في الخمسينات وكان أحد القلة من الشيعة الذين انضموا لصفوف الحزب، واحتل موقعا مهما، وكان يعمد الى ترهيب أعضاء حزبه، كان يتمتع باجراء الاستجوابات بنفسه واطفاء سيجارته في محاجر عيون ضحاياه، ومعظم الفظائع التي ارتكبها كزار تمت في قصر النهاية، والذي كان مختبرا لتطوير وسائل الاستجواب والتعذيب, ويقول هنا باتوتو المؤرخ البارز حول تاريخ العراق الحديث والذي تمكن على سبيل المثال من تجميع روايات مرعبة من ملفات حكومية حول ما جرى في قصر النهاية في ظل كزار والبعثيين عام 1963:
«مكتب التحقيقات في الحزب القومي قتل بمفرده 104 اشخاص, وفي اقبية قصر النهاية الذي استخدمه المكتب كمقر له، عثر على وسائل تعذيب في غاية البشاعة ومنها عصي واسلاك كهربائية بكلابات وخوازيق يجبر المعتقلون على الجلوس عليها وماكينة كانت ما تزال تحمل آثار اصابع مقطوعة وكانت هناك اكوام من الملابس الملطخة بالدم».
ولكن ما هو دور صدام في هذه الفظائع؟
هناك قلة من التفاصيل الدقيقة حول اماكن وجود صدام في ذلك الوقت, وكان التعليق الوحيد الذي ادلى به صدام شخصيا في ما يتعلق بهذه الفترة من المعارك الداخلية الدائرة داخل حزب البعث «كان هناك جو من الرعب والترهيب وتشكلت كتل وجماعات في الحزب ووضعت العراقيل في طريق الرفاق الذين كانوا يريدون العمل وفق خطوط الحزب السليمة», ولما كان صدام قد اختار كزار مديرا لجهاز امنه فان الرجلين لابد ان يكونا قد تعارفا اثناء حملة التصفية ضد المعارضة الشيوعية, ويرى بعض المعاصرين الذين عايشوا صدام خلال تلك الفترة انه الى جانب مهامه اليومية في مكتب المزارع فانه شارك في تنظيم الحرس القومي, وزار معسكرات الاعتقال في بغداد وساعد في الاشراف على معاقبة المحتجزين الشيوعيين.
وكمكافأة له في مثابرته على تعقب الشيوعيين عين صدام في لجنة استخبارات الحزب التي تتولى مسؤولية الاستجوابات والتحقيقات, وفي التسعينات زعم شيوعي عراقي عذب في قصر النهاية ان صدام شخصيا اشرف على استجوابه, وقال: «ربطت قدماي ويداي بحبل وعلق الحبل بخطاف في السقف وضربت مرارا بأنابيب مطاطية مليئة بالحجارة», وقد اتهم صدام بالتخلص من الضحايا الذين يتم تعذيبهم بتحليل اجسادهم بالاسيد, وفي فيلم «الايام الطوال» فان صدام يعلق على مشاركته في احداث 1963 بقوله: «يجب علينا قتل اولئك الذين يتآمرون ضدنا».
يقول بهاء شبيب الذي كان عضوا في قيادة حزب البعث في بغداد سنة 1963، وشغل لفترة وجيزة منصب وزير الخارجية في صورة يرسمها عن صدام في تلك الفترة: «في اطار الامور الكبيرة فان صدام لم يكن يحظى بالاهمية، كان يشارك بالاستجوابات والتحقيقات لكن لم يكن له دور في صنع القرار السياسي», عندما عاد من القاهرة كان همه الرئيسي الحصول على عمل، وكانت وظيفته في مكتب المزارع, لكن الشيء المهم الذي اتذكره عن صدام في ذلك الوقت هوانه كان على الدوام يحوم حول البكر الذي كان رئيسا للوزراء حينذاك, وكان يشاهد ايضا مع حراس البكر لكن احدا لم يأخذه على محمل الجد في ذلك الوقت.
ولحسن حظ الشعب العراقي فان هذه الفترة من العنف كانت قصيرة الامد, وادت التناحرات الداخلية بين المجموعات البعثية المتنافسة الى خروج الحزب من الحكم في نوفمبر 1963. اما سبب الاختلاف الايديولوجي فقد تمحور حول ما اذا كان على العراق ان يمضي قدما بهدف البعث المعلن من الوحدة العربية الشاملة وتشكيل اتحاد مع سورية او مصر او كليهما, الجناح المدني في الحزب بقيادة صالح السعدي كان يحبذ الوحدة السياسية وبخاصة بعد ان نجح انقلاب البعث السوري في مارس, لكن توجهات السعدي قوبلت بمعارضة من الجناح العسكري المحافظ الذي يفضل السياسة التقليدية «العراق أولا», وبحلول خريف 1963، ضاقت المؤسسة العسكرية العراقية ذرعا بسلوك الحرس القومي، ميليشيا حزب البعث بسبب سوء تنظيمه، والذي كان يستخدمه السعدي لترهيب المعارضين واضطهاد الشيوعيين.
في اوائل نوفمبر انقلب الجناح العسكري في البعث على السعدي وجماعته, وتم وضع السعدي على طائرة وارسل الى المنفى في اسبانيا, واحتج الحرس القومي وهاجم قاعدة الرشيد العسكرية في ضواحي بغداد.
الحارس الشخصي
وعمد البكر الذي كان يحاول توفيق الخلافات الايديولوجية بين الاجنحة المتنافسة للحزب الى عقد اجتماع للقيادة القومية للبعث, وخلال تلك الفترة ساند صدام البكر مواطنه التكريتي، وسرعان ما وجد نفسه يعمل كحارس شخصي لرئيس الوزراء, وبدأ يشاهد على الدوام الى جانب البكر وهو يتسلح بمسدسه.
ولم يؤد وصول ميشال عفلق وعدد من قادة البعث السوريين لحضور المؤتمرالخاص الذي عقد في بغداد بدعوة من البكر الى تحسين الصورة, ومع استمرار التهديد الذي يشكله الحرس القومي على النظام والامن العام نفد صبر عبدالسلام عارف مع البعث وقرر التصرف, ويوم 18 نوفمبر عمل على تعبئة وحدات الجيش التي يعتمد عليها ويثق بولائها.
ووقف الجنرال طاهر يحيى رئيس الاركان وحردان التكريتي قائد سلاح الجو الى جانب عارف واصدرا اوامرهما بمهاجمة الحرس القومي في بغداد, ونجح عارف وخلال ساعات كان الرئيس يسيطر تماما على المدينة.
ادى تدخل الرئيس عارف الحاسم الى انهاء أول تلاعب بعثي قصير في السلطة, وعزل الوزراء الـ «12» من الحكومة، واستبدلوا بضباط عسكريين من الموالين للرئيس, وطرد البكر من منصبه كرئيس للوزراء، واصبح العراق يحكم من قبل حكومة عسكرية.
تم حل الحرس القومي واستبدل بالحرس الجمهوري الذي يضم وحدات النخبة في القوات المسلحة والذي تمثلت مهمته الرئيسية في حماية النظام من اي محاولات انقلاب مستقبلية.
لم تكن الكار ثة التي حلت بحزب البعث في اواخر 1963 كارثة كلية بالنسبة لصدام، وطرد اثنين من قادة البعثيين كان يعني ان جماعة البكر التي ساندها صدام قد اصبحت القوة المهيمنة, وخلال السنتين التاليتين اصبح البكر الامين العام للقيادة القطرية وبتعزيز موقف البكر، فان ذلك كان يعني تقوية موقع صدام، فالعضوية الكاملة التي حصل عليها في القاهرة، تم الاعتراف بها اخيرا في بغداد، وتمت ترقيته الى القيادة القطرية في حزب البعث في صيف 1964، بدعم من عفلق على حد قول بعض المعلقين, واستثمر موقعه هذا في تعزيز هيمنته على الامن الداخلي للحزب.
يقول سالم شاكر وهو جنرال سابق في الجيش العراقي وناشط في حزب البعث خلال هذه الفترة «ان صدام استغل طبيعة البكر الذي يفتقد الثقة لتدعيم قاعدة نفوذه, حتى عام 1963 لم يكن صدام سوى مجرد رجل عصابة، لكن مع ترقي البكر الى مراتب اكبر في صفوف الحزب كان صدام ذكيا فاخذ يلازمه», كان البكر سياسيا جيدا، لكنه لم يكن مؤثرا في العلن, كان يجيد العمل داخل الغرف, ولهذا فقد احتاج شخصا لتنفيذ اوامره، وكان صدام الذي طلب منه ان يكون رجل هذه المهمات, وكونه تكريتيا كان يعتقد بان صدام وفيا ومواليا له، واعطاه صلاحيات ومسؤوليات واسعة، وهكذا تمكن صدام من استغلال البكر لتعزيز موقعه في الحزب.
بدأ صدام يركز طاقاته على تحسين موقعه الاجتماعي, تزوج من ساجدة ابنة خاله, ورغم القسوة والعنف اللذين يتصف بهما، فان احد معاصريه من البعثيين يصفه بانه خجول وانطوائي, ولا يميل الى التحدث اثناء مناسبات اجتماعية، واذا فعل فانه يكيل الهجمات ضد الشيوعيين, كان اختيار صدام لساجدة زوجة له خطوة موفقة, والدها وخاله خير الله طلفاح كان صديقا مقربا من البكر الذي كافأه على مساعدته للبعثيين بتعيينه مدير ا عاما في وزارة التعليم, وقد تعزز تحالف صدام مع البكر بصورة أكبر عندما تزوج احد ابناء البكر من شقيقة لساجدة, وتزوجت احدى بنات البكر من شقيق لساجدة, وحتى هذه اللحظة المبكرة من عمر البعث، كان التكريتيون يستثمرون الروابط التقليدية في المصاهرة والقرابة لتأمين قاعدة نفوذهم في بغداد.
في فبراير من عام 1963، أطيح بعبدالكريم قاسم بانقلاب رتبته وكالة المخابرات المركزية الأميركية، تزعم الانقلاب، الذي اعتبر حتى بالمقاييس العراقية رهيبا وشنيعا، الجنرال أحمد حسن البكر، وهو معلم آخر لصدام، والذي قدمه له خاله خير الله لدى انتقاله الى بغداد, وكان البكر، وهو أيضا تكريتي قد تبوأ مركزا مرموقا في البعث أثناء وجود صدام بالمنفى في القاهرة, واتصف البكر مثل خير الله بكراهيته ومقته للشيوعيين الأمر الذي وضعه بمرتبة مميزة بنظر الأميركيين, وانضم البكر الى البعث أثناء وجوده في السجن لتآمره ضد قاسم، ولدى اطلاق سراح المعتقلين السياسيين من بينهم البكر بدأ الأخير مع غيره من البعثيين بالتخطيط للانقلاب لخلع قاسم.
اضطر الانقلابيون على قاسم الى تقديم موعد التنفيذ بالنظر لاعتقال البعض منهم, ولدى اطلاق المحاولة رفضت كثير من وحدات الجيش دعم البعثيين, وبمساعدة أربع مقاتلات من نوع «هوكر هنتر» هاجم البكر قاسم، في مقره في وزارة الدفاع, استمر القتال طيلة يومين، ونجم عنه سقوط مئات القتلى والجرحى في وسط بغداد، قبل ان يضطر قاسم الى الاستسلام, ورفض قادة الانقلاب السماح له بالاحتفاظ بمسدسه ولا السماح بمحاكمته بصورة علنية، وبعد محاكمة قصيرة أعدم قاسم رميا بالرصاص, واستغرقت عملية استسلامه دون شروط واعدامه ساعة واحدة فقط, ولطمأنة العراقيين المتشككين بأن الرئيس قد انتهى، تم عرض جثة قاسم التي يمزقها الرصاص على التلفزيون العراقي، وتكرر عرض هذا الفيلم المخيف ليلة بعد أخرى, وكان ينتهي بمشهد لا بد أنه علق بأذهان كل من رآه، جندي يمسك بشعر رأس قاسم، ثم يقترب منه ويبصق على وجهه.
لكن المسألة لم تنته عند هذا الحد, دفنت جثة قاسم في حفرة ضحلة دون ان يكتب على القبر أي شيء، لكن الكلاب أخرجتها ونهشتها، وعندما تنبه المزارعون المفزوعون وضعوا الجثة في نعش ودفنوه, لكن البوليس السري نبش القبر من جديد وألقي به في مياه نهر دجلة, أما واشنطن فكانت مرتاحة لتغيير النظام، وعلق جيمس كريتشفيلد مدير «سي,آي,ايه» في الشرق الاوسط والمتخصص في التسلل الشيوعي قائلا: «اننا نعتبر ما حدث خطرا عظيما».
عودة صدام
خلال هذه الأحداث الدراماتيكية، كان صدام لايزال موجودا في القاهرة, لكنه سرعان ما عاد وبصحبته عبدالكريم الشيخلي وبعض البعثيين المنفيين الى بغداد بعد تنصيب النظام الجديد, استقبلوا في مطار بغداد من قبل بعثيين وأفراد العائلة وبعض الأصدقاء, بعد وصوله أعاد صدام تقديم نفسه الى البكر الذي كوفئ على دوره باسقاط قاسم بمنصب رئيس الوزراء من قبل الرئيس الجديد عبدالسلام عارف, عين البكر العديد من أبناء بلدته تكريت في مواقع بارزة، لكن صدام وجد نفسه في بداية الأمر على الهامش وبعيدا عن السياسة الحقيقية، ولم تقبل قيادة الحزب في بداية الأمر العضوية التي حصل عليها صدام في المنفى, فأسندت اليه وظيفة متواضعة في مكتب المزارعين المركزيين وكانت مهمته النظر بوسائل تحسين انتاج المزارعين وقدراتهم.
واذا كان صدام قد أصيب بالاحباط ازاء طموحاته السياسية، فان الاشتباكات الدامية بين البعثيين والشيوعيين بعد اسقاط قاسم وفرت له متنفسا ومخرجا للتعبير عن خيبة آماله, ومعارك الشوارع التي جرت في بغداد خلال الانقلاب تسببت في سقوط ما بين 1500 الى 5000 ضحية, وطيلة أسابيع بعد الانقلاب، جرت عمليات تفتيش ومطاردات من منزل الى منزل بحثا عن الشيوعيين واليساريين، وكانت هذه الملاحقات تتم على يد الحرس القومي الجناح شبه العسكري للبعث, كان أفراده يضعون رباطا أخضر على أذرعهم ويتسلحون بمدافع رشاشة وقوائم بأسماء أنصار الشيوعيين والمتعاطفين معهم، وبعض هذه الأسماء قدمتها لهم «سي آي ايه», كانت الأسابيع الأولى من عهد حكومة البعث الجديدة عبارة عن حفلة من العنف.
ورغم التطمينات التي قدمها البعثيون لوكالة المخابرات المركزية الأميركية بتقديم المعتقلين لمحاكمات عادلة، فان الكثير من هؤلاء الذين احتجزهم الحرس القومي قد عذبوا واعدموا , وتحولت نواد رياضية ومسارح وجزء كبير من شارع الكفاح ومنازل خاصة على يد الحرس القومي كسجون ومراكز للاستجواب, وقد تصرفت وحدات الحرس الجمهوري التابعة لصدام بالطريقة نفسها أثناء غزو العراق للكويت في اغسطس من عام 1990، حيث تم الاستيلاء على المباني الحكومية والقصور وحولوها الى مراكز للاستجواب والتعذيب, وتزعم السجلات العراقية الرسمية بانه تم اعدام 149 شيوعيا، رغم ان المتعارف عليه بان مئات وربما الالاف من الشيوعيين قد اعدموا على يد البعثيين, وكما يحدث غالبا في مثل هذه الظروف والأوضاع، فان الكثيرين ممن يقتلون اما ان يكونوا بريئين او يقعون ضحايا لأحقاد وانتقام شخصي لا علاقة لها بالسياسة.
ويقول الدكتور علي كريم سعيد وهو ديبلوماسي عراقي سابق وكان عضوا بارزا في البعث خلال هذه الفترة ان الكثير من الأبرياء قتلوا أثناء حملة التطهير الحكومية ضد الشيوعيين، وأضاف: «ما زلت أذكر عندما جاء أخي، وكان يعمل نائبا لقائد الاستخبارات العسكرية، وأحد المستجوبين الرئيسيين الى منزلي وقال لي بصوت مشحون بعد ان وضع سلاحه الرشاش جانبا: انني لا استطيع الاستمرار، لانهم يعتقلون ويرسلون اناسا بسطاء الى ساحة الاعدام, هذا غير معقول ولا يمكن احتماله».
غرف التعذيب
كانت أفظع غرف التعذيب تقع في قصر النهاية، وقد اطلق عليه هذا الاسم لأن العائلة المالكة قضي عليها في هذا الموقع عام 1958. وأحد الذين كانوا يمارسون اقسى وأبشع صنوف التعذيب يدعى نديم كزار، الذي أصبح فيما بعد مدير الأمن القومي لدى صدام, كان ساديا بكل ما تعنيه الكلمة، وقد انضم الى حزب البعث عندما كان طالبا في الخمسينات وكان أحد القلة من الشيعة الذين انضموا لصفوف الحزب، واحتل موقعا مهما، وكان يعمد الى ترهيب أعضاء حزبه، كان يتمتع باجراء الاستجوابات بنفسه واطفاء سيجارته في محاجر عيون ضحاياه، ومعظم الفظائع التي ارتكبها كزار تمت في قصر النهاية، والذي كان مختبرا لتطوير وسائل الاستجواب والتعذيب, ويقول هنا باتوتو المؤرخ البارز حول تاريخ العراق الحديث والذي تمكن على سبيل المثال من تجميع روايات مرعبة من ملفات حكومية حول ما جرى في قصر النهاية في ظل كزار والبعثيين عام 1963:
«مكتب التحقيقات في الحزب القومي قتل بمفرده 104 اشخاص, وفي اقبية قصر النهاية الذي استخدمه المكتب كمقر له، عثر على وسائل تعذيب في غاية البشاعة ومنها عصي واسلاك كهربائية بكلابات وخوازيق يجبر المعتقلون على الجلوس عليها وماكينة كانت ما تزال تحمل آثار اصابع مقطوعة وكانت هناك اكوام من الملابس الملطخة بالدم».
ولكن ما هو دور صدام في هذه الفظائع؟
هناك قلة من التفاصيل الدقيقة حول اماكن وجود صدام في ذلك الوقت, وكان التعليق الوحيد الذي ادلى به صدام شخصيا في ما يتعلق بهذه الفترة من المعارك الداخلية الدائرة داخل حزب البعث «كان هناك جو من الرعب والترهيب وتشكلت كتل وجماعات في الحزب ووضعت العراقيل في طريق الرفاق الذين كانوا يريدون العمل وفق خطوط الحزب السليمة», ولما كان صدام قد اختار كزار مديرا لجهاز امنه فان الرجلين لابد ان يكونا قد تعارفا اثناء حملة التصفية ضد المعارضة الشيوعية, ويرى بعض المعاصرين الذين عايشوا صدام خلال تلك الفترة انه الى جانب مهامه اليومية في مكتب المزارع فانه شارك في تنظيم الحرس القومي, وزار معسكرات الاعتقال في بغداد وساعد في الاشراف على معاقبة المحتجزين الشيوعيين.
وكمكافأة له في مثابرته على تعقب الشيوعيين عين صدام في لجنة استخبارات الحزب التي تتولى مسؤولية الاستجوابات والتحقيقات, وفي التسعينات زعم شيوعي عراقي عذب في قصر النهاية ان صدام شخصيا اشرف على استجوابه, وقال: «ربطت قدماي ويداي بحبل وعلق الحبل بخطاف في السقف وضربت مرارا بأنابيب مطاطية مليئة بالحجارة», وقد اتهم صدام بالتخلص من الضحايا الذين يتم تعذيبهم بتحليل اجسادهم بالاسيد, وفي فيلم «الايام الطوال» فان صدام يعلق على مشاركته في احداث 1963 بقوله: «يجب علينا قتل اولئك الذين يتآمرون ضدنا».
يقول بهاء شبيب الذي كان عضوا في قيادة حزب البعث في بغداد سنة 1963، وشغل لفترة وجيزة منصب وزير الخارجية في صورة يرسمها عن صدام في تلك الفترة: «في اطار الامور الكبيرة فان صدام لم يكن يحظى بالاهمية، كان يشارك بالاستجوابات والتحقيقات لكن لم يكن له دور في صنع القرار السياسي», عندما عاد من القاهرة كان همه الرئيسي الحصول على عمل، وكانت وظيفته في مكتب المزارع, لكن الشيء المهم الذي اتذكره عن صدام في ذلك الوقت هوانه كان على الدوام يحوم حول البكر الذي كان رئيسا للوزراء حينذاك, وكان يشاهد ايضا مع حراس البكر لكن احدا لم يأخذه على محمل الجد في ذلك الوقت.
ولحسن حظ الشعب العراقي فان هذه الفترة من العنف كانت قصيرة الامد, وادت التناحرات الداخلية بين المجموعات البعثية المتنافسة الى خروج الحزب من الحكم في نوفمبر 1963. اما سبب الاختلاف الايديولوجي فقد تمحور حول ما اذا كان على العراق ان يمضي قدما بهدف البعث المعلن من الوحدة العربية الشاملة وتشكيل اتحاد مع سورية او مصر او كليهما, الجناح المدني في الحزب بقيادة صالح السعدي كان يحبذ الوحدة السياسية وبخاصة بعد ان نجح انقلاب البعث السوري في مارس, لكن توجهات السعدي قوبلت بمعارضة من الجناح العسكري المحافظ الذي يفضل السياسة التقليدية «العراق أولا», وبحلول خريف 1963، ضاقت المؤسسة العسكرية العراقية ذرعا بسلوك الحرس القومي، ميليشيا حزب البعث بسبب سوء تنظيمه، والذي كان يستخدمه السعدي لترهيب المعارضين واضطهاد الشيوعيين.
في اوائل نوفمبر انقلب الجناح العسكري في البعث على السعدي وجماعته, وتم وضع السعدي على طائرة وارسل الى المنفى في اسبانيا, واحتج الحرس القومي وهاجم قاعدة الرشيد العسكرية في ضواحي بغداد.
الحارس الشخصي
وعمد البكر الذي كان يحاول توفيق الخلافات الايديولوجية بين الاجنحة المتنافسة للحزب الى عقد اجتماع للقيادة القومية للبعث, وخلال تلك الفترة ساند صدام البكر مواطنه التكريتي، وسرعان ما وجد نفسه يعمل كحارس شخصي لرئيس الوزراء, وبدأ يشاهد على الدوام الى جانب البكر وهو يتسلح بمسدسه.
ولم يؤد وصول ميشال عفلق وعدد من قادة البعث السوريين لحضور المؤتمرالخاص الذي عقد في بغداد بدعوة من البكر الى تحسين الصورة, ومع استمرار التهديد الذي يشكله الحرس القومي على النظام والامن العام نفد صبر عبدالسلام عارف مع البعث وقرر التصرف, ويوم 18 نوفمبر عمل على تعبئة وحدات الجيش التي يعتمد عليها ويثق بولائها.
ووقف الجنرال طاهر يحيى رئيس الاركان وحردان التكريتي قائد سلاح الجو الى جانب عارف واصدرا اوامرهما بمهاجمة الحرس القومي في بغداد, ونجح عارف وخلال ساعات كان الرئيس يسيطر تماما على المدينة.
ادى تدخل الرئيس عارف الحاسم الى انهاء أول تلاعب بعثي قصير في السلطة, وعزل الوزراء الـ «12» من الحكومة، واستبدلوا بضباط عسكريين من الموالين للرئيس, وطرد البكر من منصبه كرئيس للوزراء، واصبح العراق يحكم من قبل حكومة عسكرية.
تم حل الحرس القومي واستبدل بالحرس الجمهوري الذي يضم وحدات النخبة في القوات المسلحة والذي تمثلت مهمته الرئيسية في حماية النظام من اي محاولات انقلاب مستقبلية.
لم تكن الكار ثة التي حلت بحزب البعث في اواخر 1963 كارثة كلية بالنسبة لصدام، وطرد اثنين من قادة البعثيين كان يعني ان جماعة البكر التي ساندها صدام قد اصبحت القوة المهيمنة, وخلال السنتين التاليتين اصبح البكر الامين العام للقيادة القطرية وبتعزيز موقف البكر، فان ذلك كان يعني تقوية موقع صدام، فالعضوية الكاملة التي حصل عليها في القاهرة، تم الاعتراف بها اخيرا في بغداد، وتمت ترقيته الى القيادة القطرية في حزب البعث في صيف 1964، بدعم من عفلق على حد قول بعض المعلقين, واستثمر موقعه هذا في تعزيز هيمنته على الامن الداخلي للحزب.
يقول سالم شاكر وهو جنرال سابق في الجيش العراقي وناشط في حزب البعث خلال هذه الفترة «ان صدام استغل طبيعة البكر الذي يفتقد الثقة لتدعيم قاعدة نفوذه, حتى عام 1963 لم يكن صدام سوى مجرد رجل عصابة، لكن مع ترقي البكر الى مراتب اكبر في صفوف الحزب كان صدام ذكيا فاخذ يلازمه», كان البكر سياسيا جيدا، لكنه لم يكن مؤثرا في العلن, كان يجيد العمل داخل الغرف, ولهذا فقد احتاج شخصا لتنفيذ اوامره، وكان صدام الذي طلب منه ان يكون رجل هذه المهمات, وكونه تكريتيا كان يعتقد بان صدام وفيا ومواليا له، واعطاه صلاحيات ومسؤوليات واسعة، وهكذا تمكن صدام من استغلال البكر لتعزيز موقعه في الحزب.
بدأ صدام يركز طاقاته على تحسين موقعه الاجتماعي, تزوج من ساجدة ابنة خاله, ورغم القسوة والعنف اللذين يتصف بهما، فان احد معاصريه من البعثيين يصفه بانه خجول وانطوائي, ولا يميل الى التحدث اثناء مناسبات اجتماعية، واذا فعل فانه يكيل الهجمات ضد الشيوعيين, كان اختيار صدام لساجدة زوجة له خطوة موفقة, والدها وخاله خير الله طلفاح كان صديقا مقربا من البكر الذي كافأه على مساعدته للبعثيين بتعيينه مدير ا عاما في وزارة التعليم, وقد تعزز تحالف صدام مع البكر بصورة أكبر عندما تزوج احد ابناء البكر من شقيقة لساجدة, وتزوجت احدى بنات البكر من شقيق لساجدة, وحتى هذه اللحظة المبكرة من عمر البعث، كان التكريتيون يستثمرون الروابط التقليدية في المصاهرة والقرابة لتأمين قاعدة نفوذهم في بغداد.
ola- عدد الرسائل : 6
تاريخ التسجيل : 03/08/2007
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى